ونحن ندخل الألفية الثالثة ربما من المناسب الحديث حول أحد جوانب تحديات القرن الجديد ومتطلب أساسي من متطلباته، ألا وهو التحدي الاتصالي أو اللغوي. فالعالم يتحدث اليوم عن العولمة وعن القرية العالمية وعن تحول سكان الكرة الأرضية إلى عشيرة عالمية وهذا بفعل ثورة الاتصالات، وثورة المعرفة/ التفجر المعرفي الذي يغزونا في عقر دارنا، والذي لا يرحمنا إلا بقدر ما نتعامل معه بروح ايجابية واعية.
إن عالم اليوم لا يترك متسعا لمن لا يحسن مهارات الاتصال، بل ان الذين يملكون القوة في القرن القادم سيكونون بالضرورة أولئك الذين يملكون ناصية المعلومات وملكة الاتصال الفعال. ولقد ساعد التقدم التكنولوجي المذهل والمتسارع على التقدم في مجال الاتصالات، فمن الناحية العملية غدا ممكناً تطويع الحواسيب والآلات الأخرى لإرسال ما نريد من معلومات بسرعة وبدقة عبر أرجاء الكون، ولم تعد الجغرافيا عاملاً يحد من الاتصال.
ولكن التكنولوجيا لا تصنع الاتصال ولا تصنع الأفكار والأحاسيس، وإنما البشر فقط هم القادرون على ذلك. إن الحواجز في عصرنا الحاضر لم تعد بسبب بعد المسافات المكانية، وإنما هي حواجز نفسية واجتماعية وعاطفية. وبالتالي أصبح من المهم التفكير أكثر بالرسالة نفسها وليس فقط بأدوات توصيل الرسالة.
في السنين القادمة، ستصبح مهارات الاتصال أكثر من مجرد صفات يفضل ان يمتلكها أرباب العمل والموظفون، وإنما ستصبح أساسية لا غنى عنها في مجال المال والأعمال، والسياسة والإعلام، وعلى كل صعيد في حياتنا. فلا ينفع أن يكون لشركة ما إنتاجا جيداً، وإنما ستحتاج الشركات الصانعة والمصدرة لمهارات الاتصال لدى جميع طواقمها من أجل التسويق والإعلان ومن ثم النجاح والإبداع.
إن التحدي القادم هو تحدٍ اتصالي، فالعالم يحتاج لأن يعمل بانسجام، فما يحدث في دولة ما بات يؤثر ويهدد ما يمكن أن يحدث في بقاع كثيرة في العالم. لم يعد العالم قارات خمس كما عملنا أساتذة الجغرافيا، وإنما أصبح العالم يتجه بسرعة نحو بعضه بعضاً، ولم يعد الاتصال كما كان في الماضي من فوق إلى أسفل من خلال إصدار الأوامر، عالم السادة والعبيد، وإنما تتجه الشعوب نحو الديمقراطية والمطالبة بالمساواة، وبات من المهم أن يكون التواصل بين أنداد يتعاونون معاً في سبيل إنقاذ مستقبل عالمهم.
إن القادة في عالم اليوم بحاجة إلى مهارات الاتصال الفعالة التي تجعلهم قادرين على خلق ظروف الإبداع لدى مرؤوسيهم. إن مجرد إصدار الأوامر والتعليمات، وإتباع سياسة (نفذ واسكت) لم يعد مجدياً، فالمؤسسات التي لا تتيح قنوات اتصال مفتوحة لا يمكن ان تنجح، فالتغيير لا يصنعه القادة بإصدار الأوامر، وإنما بخلق الدافعية لدى مرؤوسيهم من أجل انجاز التغيير المطلوب.
في المجتمع المتغير والديناميكي، لم العمال والموظفون من طبقة واحدة، وجنس واحد، وإنما دخلت المرأة سوق العمل. وهناك مستويات متعددة من العمال والموظفين في البلد الواحد، وبالتالي على القادة التعامل بفعالية مع إطراف لها خصوصياتها والتي لا تظهر إلا من خلال التواصل اللغوي وغير اللغوي.
إن نجاح التطوير والإصلاح الاقتصادي والتربوي والإداري لا بد أن يواكبه استثمار في مجال تطوير مهارات الاتصال لدى الناس في قطاعات الإنتاج المختلفة وقطاعات المبيعات والإعلان والتسويق، والإدارة. تصوروا هذه الاجتماعات الكثيرة، إن جل أوقات القادة والإداريين في الاجتماعات، وإذا لم يتمكن هؤلاء من إيصال رسائلهم بفعالية، فبالإمكان توقع الخسائر في الوقت والجهد والمال. العامل والموظف يحتاج إلى مدير وقائد يكون مصدراً للإلهام، ويرى الأشياء من منظور الآخرين، إلى القادة الذين يعبرون عن أفكارهم بقوة ووضوح وصدق.
في عالم الإدارة لا بد من المشاركة ولا بد من التواصل والاستماع لكل الأطراف. كما لا بد من إيصال المعلومة للجميع بسلاسة ودقة وسرعة، لأن الذي لا يعرف لا يمكن تحميله مسؤولية، فالقدرة والاستعداد لتحمل المسؤولية منوطة بالمعرفة، فلا يمكن أن تلومني على فعل / عدم فعل شيء لم تخبرني عنه. إن تقاسم المعلومات يؤدي إلى تقاسم المسؤولية كما أن الإدارة الفاعلة هي تلك التي تتيح مجالاً للإدارات الدنيا دارة ذاتها بأسلوب لا مركزي. ولا يكون ذلك إلا بالاعتماد على سرعة ودقة عملية التواصل البيني.
وفي عالم اليوم ونحن ننضم إلى منظمة التجارة العالمية، ونتجه إلى دخول أو تطوير صناعات الخدمات والسياحة وتسويق البرمجيات فلا بد من إيلاء القوى البشرية العناية الاتصالية الخاصة، فربما ليس ببعيد ذلك الزمن الذي سيحتاج به حارس العمارة التعامل مع أدوات حاسوبية، والجندي إلى فهم الكاتولوجات وطرق الاستعمال لكثير من الأدوات المعقدة، فالتكنولوجيا مرة أخرى لا تصنع الاتصال، وإنما تيسره وتجعله أكثر فائدة، ولكن البشر وحدهم صناع التغيير، ووحدهم صناع المعنى، والمعلومة، والفكرة، والعاطفة.
في عالم الغد سيحتاج الكل إلى مخاطبة الكل، وسيحتاج الكل إلى احترام الكل، في عالم الغد القريب، سنحتاج أكثر فأكثر إلى علم وفن التفاوض، مع أطفالنا وأزواجنا وزملائنا، وليس ينفعنا فن التعصيب، ورفع الصوت، والضرب بالأيدي، لان الذي تسبق يده لسانه، لا يختلف عن الأطفال أو الكائنات غير البشرية.
في عالم الغد القريب، سنحتاج إلى معرفة قوانين التنافس الشريف، وغير الشريف، وسنحتاج إلى معرفة السوق، وبدون أن نتعلم ونعلم كيف نتواصل سيكون النجاح بعيد المنال.
في عالم الغد القريب، لن تشفع لخريج الجامعة أن يحمل شهادته ويشهرها على الآخرين كسلاح العصر، وإنما سيحتاج إلى إثبات مقدرته على استخدام الحاسوب والتكنولوجيا وقدرته على الاتصال بفعالية. باختصار شديد تعالوا نتواصل!!